انتخابات تركيا انتخاب الاستقرار أو الفوضى

3 نوفمبر 2015

انتخابات تركيا انتخاب الاستقرار أو الفوضى

نجحت سياسة الترويع والتهديد بالفوضى التي عممها رئيسا الجمهورية والحكومة التركيان رجب طيب أردوغان واحمد داود اوغلو في تخويف الناخب التركي، الذي أعاد «حزب العدالة والتنمية» إلى السلطة منفرداً، بعدما فقدها في انتخابات 7 حزيران الماضي.
لا يختلف اثنان على أن إستراتيجية الترهيب هي التي أوصلت «حزب العدالة والتنمية» إلى السلطة وليس أي شيء آخر. وليس أبلغ من قول رئيس فرع «حزب العدالة والتنمية» في ازمير بولنت ديليجان، بعد صدور النتائج، انه «بعد الآن لن تأتي جنازات الشهداء من الجيش… فليرحمهم الله».
لقد أثمرت سياسة الترهيب أكلها في الانتخابات، فكانت العودة القوية لـ «حزب العدالة والتنمية».
في العناوين السياسية العامة، فإن عوامل انتصار الحزب كانت متعددة:
١ ـ سخّر الحزب كل إمكانيات الدولة التركية لمصلحته في معركة غير متكافئة، وكان هذا امتيازاً له.
٢ ـ منذ اللحظة الأولى لظهور نتائج انتخابات 7 حزيران كان اردوغان يخير الناس بين «الاستقرار أو الفوضى»، متبعا إستراتيجية تخويف الناخب. وبدا ذلك بإعلان الحرب على الأكراد، بشقيهم العسكري والسياسي.2
في الشق العسكري، غارات يومية للطيران التركي على مواقع «حزب العمال الكردستاني» في داخل تركيا وفي شمال العراق، وألحق ذلك بغارات، ولو محدودة ولكنها ذات رسائل إلى الداخل التركي قبل الخارج، على مواقع لـ «قوات حماية الشعب» الكردية في سوريا. ترافق ذلك مع حصار العديد من المدن الكردية، وإعلان حظر التجول في بعضها ومن ثم الدخول إليها لملاحقة من يسميهم عناصر من «الكردستاني». فتحولت أحياء كثيرة في مدن حقاري وشيرناك وغيرها إلى خراب.
وفي الشق السياسي كان الاتهام الفوري، بعد الانتخابات الماضية، من جانب اردوغان لـ«حزب الشعوب الديموقراطي» بأنه إرهابي وامتداد لـ «حزب العمال الكردستاني». وكانت اعتقالات في صفوف مؤيديه.
وبلغت ذروة التهديدات بالقتل بقول رئيس الحكومة إنه إذا لم يتم انتخاب حزبه للسلطة فإن سياسات «طوروس البيضاء» (التي كانت تستخدم لخطف المعارضين وقتلهم في الثمانينيات والتسعينيات في المناطق الكردية) سوف تظهر من جديد.
٣ ـ خلال الحرب على «حزب العمال الكردستاني» نقلت سلطة «حزب العدالة والتنمية» عملية التخويف من جنوب شرق البلاد إلى مناطق أخرى، فكانت مجزرة سوروتش وتفجير أنقرة اللتان استهدفتا مؤيدين لـ «حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي، وأسفرا عن أكثر من 135 قتيلا. وفي إثر تفجير أنقرة ألغى الحزب الكردي كل مهرجاناته، فيما كان داود أوغلو وأردوغان يصولان ويجولان في المناطق دون حسيب أو رقيب. وفي هذه الجزئية فإن تنظيم «داعش» كان جزءا من سياسات دعم أردوغان في الانتخابات، بتوظيف عناصره لخدمة أهداف الحكومة في ترويع الناخب الكردي، وفي إشاعة مناخ من الفوضى في الداخل التركي.
٤ ـ ألحقت الحكومة حملة الترويع والقتل هذه بحملة واسعة من كم الأفواه، بإغلاق أقنية تلفزيونية وصحف معارضة، خصوصا الموالية منها للداعية فتح الله غولين. وأعلن احد نواب «حزب العدالة والتنمية» انه بعد الانتخابات سيتم استهداف صحف «حرييت» و «جمهورييت» و «سوزجي» وغيرها.
إزاء كل هذا، ذهب الناخب إلى صندوقة الاقتراع يظلله الخوف والرعب والضغوط.

لم يكن هذا الرعب ليتأثر به جميع الناخبين، بل كانت خطة أردوغان عبارة عن ترويع الفئات القابلة للترويع لتغير رأيها، وهذه الفئات تتلخص في اثنتين،
وهما بالتحديد: الأولى الناخب الكردي عموماً، والقول له إما أن تؤيد «حزب العدالة والتنمية» أو أن تموت. وكانت عين أردوغان على الأقل على الناخب الكردي المتدين الذي تخلى عن تأييد «العدالة والتنمية» في الانتخابات الماضية لمصلحة الهوية الكردية أولاً. أما الفئة الثانية فهي قاعدة «حزب الحركة القومية» التي تشغل «حزب العدالة والتنمية» كثيراً لأنها أمله الوحيد لتنمية أصواته. وعنوان خطاب قتل الأكراد هو أن أردوغان يحمي الأمن القومي، وهو وحده يتصدى بحزم لإرهاب «حزب العمال الكردستاني».
في ترجمة عملية للأرقام نجد أن هذه السياسة قد نجحت بالفعل لدى هاتين الفئتين تحديداً.
ارتفعت أصوات «حزب العدالة والتنمية» من 41 إلى 49 في المئة، أي أن نقاطه زادت ثماني نقاط. من أين جاءت هذه النقاط؟
«حزب الحركة القومية» تراجعت نقاطه من 16.3 إلى 12.0 في المئة، أي أكثر من أربع نقاط. هذه النقاط من المستحيل أن تذهب إلى «حزب الشعب الجمهوري» العلماني ولا إلى الحزب الكردي بل ذهبت كلها إلى «العدالة والتنمية».
المصدر الثاني من النقاط جاء من نسبة تقارب ربع الناخبين الأكراد الذين كانوا يصوتون لأردوغان وتخلوا عنه المرة الماضية، وعادوا إليه هذه المرة بسبب سياسة التخويف والترغيب، وهؤلاء يمكن أن يشكلوا نقطة على الأقل.
المصدر الثالث والمهم هو أن «حزب السعادة» الإسلامي فشل فشلاً ذريعاً، وهو الذي نال المرة الماضية 2.5 في المئة. نال الآن أقل من نقطة مئوية (0.7). أي أن نقاط «السعادة»، وهي نقطتان على الأقل، ذهبت إلى «حزب العدالة والتنمية».
المصدر الرابع هو عودة نقطة ونصف النقطة من قواعد الحزب ممن لم تؤيده، أو لم تذهب في الأساس إلى الاقتراع في حزيران إلى تأييده هذه المرة. وبالتالي فإن مجموع هذه النقاط كلها يبلغ ثماني نقاط، هي التي نالها الحزب هذه المرة، وهي 49.4 في المئة.
لم يكن «العدالة والتنمية» بعيداً عن الفوز في الانتخابات أمس الأول، لكن استطلاعات الرأي كلها، ما عدا واحدة، كانت تعطيه إما خسارة أو فوزاً بشق النفس بالنصف زائدا واحدا، أي 276 مقعدا. لكنه فاز بـ 316 مقعدا، وانما أقل بـ11 نائبا عما كان يملكه قبل 7 حزيران. أي انه عاد كنسبة مئوية إلى ما كان عليه في العام 2011 ولم تعمّر هزيمته أكثر من أربعة أشهر ونصف الشهر.

أجمع الكل، ومنهم «حزب العدالة والتنمية»، أنهم فوجئوا بحجم الانتصار. كانوا يتوقعونه على الحد تماماً، مع قلق من أن لا يستطيع كسر حاجز النصف زائدا واحدا.
هذه المفاجأة من فوق تقابلها حتما مفاجأة من تحت، أي في جانب الحزبين الأصغرين.
المفاجأة الأولى أن «حزب الحركة القومية» كان متوقعاً تراجعه بحدود النقطتين، لكن ليس بأربع نقاط ونصف النقطة. وإضافة إلى عامل الخطاب الاستقطابي والحرب على الأكراد لأردوغان، فإن تخلي جزء من قاعدة دولت باهتشلي كانت متوقعة، لأنها كانت ممتعضة من كل مواقفه السلبية من الائتلاف مع المعارضة أو «حزب العدالة والتنمية» وترى انه فوّت فرصة ليكون شريكاً في السلطة.
أما المفاجأة الثانية، فهي تراجع «حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي بثلاث نقاط، كادت تنزله عن حاجز العشرة في المئة ليبقى خارج البرلمان، لولا أن أصوات المغتربين الأتراك هي التي عدلت كفته في اللحظات الأخيرة للفرز، ومكّنته من تجاوز عتبة العشرة في المئة.
لا شك أن الضغوط العسكرية والسياسية والميدانية لم تتح للحزب أن يقوم بحملة انتخابية طبيعية، وهو كما قلنا ألغى منذ العاشر من تشرين الأول كل مهرجاناته، وأثر ذلك نفسياً على بعض قاعدته. وهذا التراجع يطرح مستقبلا إمكانية أن يواصل الحزب الاحتفاظ بنسبة العشرة في المئة.
ومن تفسيرات تراجع الحزب أن نقطة من قواعد «حزب الشعب الجمهوري» قد سحبت تأييدها له، بعدما منحته سابقا هذه النقطة، لكي يتجاوز العشرة في المئة في انتخابات 7 حزيران. ولم تجد هذه النقطة سبباً لتبقى عند الحزب الكردي بعدما جزمت استطلاعات الرأي بأنه سيفوز بما بين 12 و 14 في المئة. وربما هي النقطة التي عادت إلى «حزب الشعب الجمهوري» الذي زادت نسبة التأييد له نصف نقطة فقط، ما يعني أنه خسر بعضا ممن صوت له المرة الماضية.
لكن فوز الحزب الكردي بأكثر من عشرة في المئة يعتبر رغم تراجعه انتصاراً كبيراً له، إذ يخوض الانتخابات كحزب للمرة الثانية فقط، وخلال خمسة أشهر فقط. فقد ثبّت الحضور السياسي الكردي الوازن في البرلمان بـ 59 نائباً رغم تراجعه 21 نائبا. أما الخاسر الأكبر في عدد النواب، فهو «الحركة القومية»، الذي تراجع عدد نوابه من 80 إلى 39 نائباً، ليكون الحزب الرابع والأخير في البرلمان، وليكون أمام احتمالات ظهور مشكلات داخلية فيه.
أما بالنسبة الى «حزب الشعب الجمهوري» فهو الوحيد الذي لم يتقدم (نصف نقطة فقط) ولم يتراجع، وبقي عند حدود الـ25 في المئة، وهي نتيجة محبطة لكنها مرضية له.
غير أن الخريطة البرلمانية الجديدة في ظل تراجع القوميين الأتراك والأكراد تعكس تزايد الاستقطاب الإسلامي العلماني. وتجعل نسبة أصوات اليسار 36 نقطة، بحساب مجموع أصوات «الشعب الجمهوري» و «الشعوب الديموقراطي»، مقابل 64 مجموع أصوات الكتلة المحافظة من حزبي «العدالة والتنمية» و «الحركة القومية».
الرابحون في الانتخابات
أما الرابحون فهم كثر بلا شك.
أولهم رجب طيب أردوغان الذي كان وراء إجراء انتخابات نيابية مبكرة، وإفشال تشكيل حكومة ائتلافية. وبهذا الفوز اطمأن بأنه سيحكم البلاد رئاسياً بحكم القوة لا الدستور. لكن أمله في إعادة ضخ الدم في عروق مشروع النظام الرئاسي يبقى قائماً، وينقصه 14 نائباً ليحول الاقتراح إلى استفتاء شعبي. وربما يسعى لجذبهم من «حزب الحركة القومية»، إما فصلاً عن حزبهم أو على الأقل تأييدا للاقتراح.
والرابح الثاني هو احمد داود اوغلو الذي نجح في اختبار صعب كرّسه زعيما للحزب، بعدما اهتزت مكانته في الانتخابات الماضية.
والرابح الثالث هو «حزب العدالة والتنمية» الذي لم يكن يحلم بأن يعود على هذه الدرجة من القوة، وبعدما بانت علامات ظهور حزب منشق عنه بقيادة عبدالله غول وبولنت أرينتش.
سياسة «العدالة والتنمية»

الآن تتوجه الأنظار إلى ما يمكن أن يفعله «حزب العدالة والتنمية» في الداخل والخارج.
في الداخل ليس من أمل بإحداث تغيير في سياساته القمعية والمكممة لحرية الصحافة والمعارضين له، بل ستزداد. أما أزمة الاقتصاد فأزمة بنيوية لا تتعلق فقط بالاستقرار، لأن التراجع حدث فيما كان «حزب العدالة والتنمية» وحده في السلطة ولم يحدث بين عشية وضحاها.
وما سيركز عليه الحزب هو إعداد دستور جديد يتوافق مع ميوله، وربما ينحو نحو نظام رئاسي.
والعين على المسألة الكردية، حيث يحتمل أن يجدد الحزب المفاوضات مع زعيم «الكردستاني» عبدالله أوجلان تحديداً من موقع القوة هذه المرة، لينتزع من الأكراد اكبر قدر من التنازلات. وربما تبدأ مساومات لتأييد الأكراد لنظام رئاسي مقابل بعض الفتات لهم، حيث لن يقبلوا بأقل من الاعتراف بهويتهم في الدستور وهذا دونه معجزة.
يمكن لأردوغان أن يأمل بتجيير انتصاره في الداخل، لكن ذلك محكوم بتغيير ذهنية الاستقطاب المذهبية والاثنية والقمع والإلغاء والاستئثار والتطلع ليكون سلطانا جديدا في قصره السلجوقي. وحظوظ هذا التغيير ضئيلة جداً، وهو ما سيفتح البلاد أمام أزمات مستمرة ومفتوحة.
أما في الخارج، فإن هذا الانتصار سيجعل من أردوغان يتصرف على أساس أنه الأقوى، ولا غنى عن دوره في القضايا الإقليمية، لا سيما في سوريا. لكن هذا كان موجوداً قبل انتخابات 7 حزيران ولم يوفر له عناصر القوة هذه، بل إنه وجد نفسه أكثر عزلة ومقصياً من الغرب والولايات المتحدة وروسيا، وبالتالي فإن هذا الانتصار يمكن صرفه جزئياً في الداخل، لكنه محكوم بالفشل في الخارج. وقد يعطي هذا الانتصار جماعة «الإخوان المسلمين» أملاً بإعادة إحياء أدوارهم داخل الدول العربية، رغم انه إحياء محكوم بالفشل بسبب المتغيرات في العالم العربي لا بالمتغيرات في تركيا.
باختصار، يمكن القول إن انتصار «حزب العدالة والتنمية» جاء في ظل ظروف غير طبيعية، ونتائجه بالتالي غير طبيعية، وبالتالي أيضاً لا يمكن صرفه على أرض الواقع أي تغييرات جذرية، لا في هذا الاتجاه ولا في ذاك، لا في الداخل ولا في الخارج. هو انتصار نفسي أكثر منه أي شيء آخر، لا يقدم ولا يؤخر، رغم محاولات أردوغان ـ داود اوغلو تصويره غير ذلك.

Author

اردوغان

الحرب

انتخابات

تركيا

حزب العدالة والتنمية

داعش

سوريا


اكتب تعليقك الخاص عنون البريد الألكتروني ورقم الهاتف لن يظهر في التعليق

نام

ایمیل

دیدگاه


برای گزاشتن تصویر خودتان به سایت Gravatar مراجعه کنید.