تصادف اليوم، الأربعاء الواقع فيه الرابع عشر من آب 2013، الذكرى السابعة لانتصار لبنان، بمقاومته المجاهدة معزّزة بتضامن شعبه وإسناد جيشه على الحرب التي شنها العدو الإسرائيلي على لبنان، والتي امتدت لثلاثة وثلاثين يوماً، وطاول جحيمها فضلاً عن الجنوب والطريق إليه الضاحية ـ النوارة وبعض أطراف بيروت، فضلاً عن بعض البقاع وبعض الشمال وبعض الجبل.
لم تدرج الحكومات المتعاقبة الرابع عشر من آب كيوم عيد رسمي، ولن يقصد فيه «رجال الدولة» أضرحة الشهداء في البلدات والقرى والضاحية التي لحقها الدمار، لوضع أكاليل الزهور، ولن تخصص وسائل الإعلام الرسمي ساعات لبث الأشرطة والصور النادرة للبطولات، قتالاً أو صموداً.
سيمر هذا اليوم، الأربعاء الواقع فيه الرابع عشر من آب، من دون أن تنتبه الدولة، وكذلك نسبة كبرى من اللبنانيين، إلى خطورة الإنجاز العظيم الذي تحقق بالتضحيات الجسام، وبالقيادة الكفوءة وبالمجاهدين الذين أعطوا أرواحهم لأرضهم فجعلوها مقدسة، ولمستقبل أبناء وطنهم فرفعوا رؤوسهم عالياً، بغير تباهٍ، ولكن بشرف ردّ العدوان وتحقيق النصر.
… هذا في حين ينهمك العدو الإسرائيلي، حكومة وجيشاً وعلماء ومعاهد دراسات استراتيجية في دراسة أسباب نكسته في تلك الحرب وعجزه عن الانتصار فيها، برغم تفوقه في السلاح، براً وبحراً وجواً، فضلاً عن الصواريخ، وبرغم اتساع رقعة التأييد الدولي لتلك الحرب والتي شاركت وزيرة الخارجية الأميركية كوندليسا رايس في «إدارتها»، بل وفي تعطيل القرار الدولي بوقفها، لعل العدو ينجح في تعديل جدي في وقائع الميدان «إنقاذاً لماء وجه الجيش الذي لا يُقهر» ومَن معه.
… وفي حين يجتهد معظم أهل النظام العربي في مكافحة آثار هذا النصر بمختلف أنواع التحريض المذهبي والتشهير السياسي بالمجاهدين الذين صنعوه عبر التفاف شعبهم (والشعوب العربية، ولو من خلف حكوماتهم) حولهم، ويسبقون حتى الاتحاد الأوروبي في إدراج «حزب الله» على لائحة التنظيمات الإرهابية… علماً أن الأوروبيين قد بادروا بعد «إجبارهم» على اتخاذ القرار فسعوا إلى قيادة «حزب الله» معتذرين.
– وعندما التقت «السفير» سماحة السيد حسن نصر الله مؤخراً، بادرناه بالسؤال عن الشيب الذي غزا ويغزو لحيته وشعره وما هي علاقة ذلك بحرب تموز 2006، فأجاب ضاحكاً: «لقد شيّبنا الداخل اللبناني.
المعركة مع الإسرائيليين أسهل من المعركة في الداخل.
مع الإسرائيلي يكون الهدف واضحاً والخيارات واضحة في المعركة.
الأسلحة والتكتيكات والخطاب.
أما في الداخل، وما أدراك ما الداخل، فحدّث عن المصاعب ولا حرج».
نعم، غريب أمر هذا البلد. دولته غائبة أو مغيّبة نفسها عن الأساسيات والثوابت، ومع ذلك يعطي أهله وثواره فرصة هزيمة إسرائيل ومَن معها من «الدول» و«الأحلاف»، مَن جهة، ويعطي، من جهة ثانية، طوائفه ومذاهبه وأقلياته وأكثرياته فرصة هزيمة أي منتصر على هؤلاء.
– غداة حرب الثلاثة وثلاثين يوماً، وتحديداً في 27 آب 2006، قال السيد نصر الله في مقابلة مع الزميلة مريم البسام عبر شاشة «الجديد»: «لو سألتني عما إذا كان لدينا شك واحد في المئة في 11 تموز بأن عملية الخطف ستوصل إلى حرب كالتي حصلت هل كنت ستمضي في هذا الطريق، كنت سأجيب قطعاً بالنفي لأسباب إنسانية وأخلاقية واجتماعية وأمنية وعسكرية وسياسية».
عبارة أقامت الدنيا ولم تُقعدها قبل سبع سنوات. البعض اعتبرها «قمّة الصدق».
البعض الآخر حوّلها دليلاً جرمياً لمحاكمة «السيد» بوصفه «مجرماً».
رأي ثالث من خارج ثنايا السياسة قارب تلك العبارة بطريقة مختلفة، داعياً أهل السياسة إلى التدقيق في ثناياها والاقتداء بمضمونها، «حيث نجد فائضاً من الصدق والحرص على البلد وأهله».
– في الثامن والعشرين من نيسان 2000، وعلى عتبة أقل من شهر من موسم التحرير، قال الرئيس نبيه بري مخاطباً السيد نصر الله في لقاء ثنائي ضم عدداً من القياديين الحزبيين والحركيين: «يا سيد، إسرائيل هُزمت، لكن علينا ألا نفرح كثيراً وألا نغرق في نشوة الانتصار. هذا التحرير ومعه هزيمة إسرائيل، هو أكبر من أن يتحمّله العرب والمسلمون وربما بعض اللبنانيين».
– قبيل أيام قليلة من «احتفال النصر» في 25 أيلول 2006، استقلّ نبيه بري وحسين خليل وعلي حسن خليل سيارة واحدة في اتجاه الضاحية الجنوبية.
يصلون إلى بناية تقف وحدها وحولها عشرات الأبنية المدمرة في حارة حريك.
من الملجأ إلى الطبقة الخامسة، حيث كان «السيد» في استقبال «دولته» و«الخليلين» عند باب المصعد مباشرة.
عناق ثم خلوة يخاطب بري في نهايتها مضيفه قائلاً: «نعم نحن انتصرنا يا سيد، والعالم لن يستطيع إنكار هذا الانتصار وربما يحتفل به معنا، ولكن في لبنان، هناك من يُصرّ على التنظير لمنطق الهزيمة ولا يريدك أن تظهر في مظهر المنتصر»، وذكّره بما قاله له عشية تحرير الألفين بأن هناك من يريد تدفيع المقاومة ولبنان ثمن ذلك النصر».
لذلك ربما، سيمر 14 آب الذي يصادف اليوم مرور الكرام على الكثيرين في لبنان والعالم العربي، ممن تشغلهم الأحقاد وتصفية الحسابات والصراعات المذهبية والهواجس المنتفخة، عن الاحتفاء بانتصار المقاومة على العدو الإسرائيلي في حرب تموز.
مباشرة بعد حرب تموز، وقيام المحكمة الدولية في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وجد بين الدول والمستفيدين من هذه الفاجعة التي هزت لبنان والمنطقة العربية، من يسعى جاهداً لتوجيه أصابع الاتهام إلى «أفراد» من «حزب الله»، بشهود زور أو شهود على الشبهة، إلى «حزب الله» عبر بعض مجاهديه، زوراً وبهتاناً.
منذ العام 2006 وحتى اليوم، كانت المسافة كافية لتغيير هوية العدو والصديق، ولتشويه صورة المقاومة والإنجاز، حتى كاد النصر الذي تحقق في حرب تموز يصبح «تهمة».
وكي تكتمل المفارقة، اختار الاتحاد الأوروبي أحد أيام تموز ليضع ما أسماه «الجناح العسكري» لـ«حزب الله» على لائحته السوداء.
لكن هذا ليس شأن أوروبا فقط، ذلك أن بعض الجهات اللبنانية والعربية لم تكن أكثر رأفة بالمقاومة وإنجازاتها من الآخرين، حتى بلغ الأمر بهذه الجهات العمل الدؤوب، سراً وعلانية، على عزل المقاومة وتجريدها من المشروعية ووسمها بكل أنواع الاتهامات والموبقات.
وبرغم أن المقاومة تكاد تكون «المؤسسة» الوحيدة الحية إلى جانب المؤسسة العسكرية في زمن الدولة المشلولة على كل المستويات، فإن هناك من يستعجل تفريغها من محتواها وقدراتها، من دون أن يكون البديل جاهزاً أو مضموناً، متجاهلاً أن القفز في المجهول هو المغامرة بحد ذاتها وليس التمسك بخيار أثبت عبر التجربة صوابيته وجدواه، كما يدلّ تحرير الألفين ونصر العام 2006.
وكان يمكن أن تكون المقاومة ضد العدو الإسرائيلي واحدة من أهم القواسم المشتركة في حقبة التفتيت المذهبي وصياغة مشاريع تتجاوز سايكس بيكو في تدميرها لوحدة هذه الأرض وهويتها العربية.
كان يمكن لها أن تكون أفضل ردّ على المشاريع التي تغزو منطقتنا بمسميات مختلفة، لكن ضيق الأفق واتساع الغرائز والعصبيات أفرزا طبقة من الغشاوة، شوّشت الرؤية وشوّهت الحقائق، حتى صارت إسرائيل عدواً «سابقاً»، وفي أحسن الحالات «مؤجلاً»، لتحتل صفة العداوة مسميات أخرى.
في الدول «الطبيعية»، يُمجّد الانتصار على العدو ويُمنح صانعوه أوسمة وامتيازات، أما عندنا فهم «مرتكبون»، و«متهورون»، وكثيراً ما يجدون أنفسهم مضطرين إلى الدفاع عن أنفسهم و«تبرير» تضحياتهم.
في الدول «الطبيعية»، يُصان الانتصار ويُحفظ له المكان والمكانة اللذان يليقان به في الوجدان وكتب التاريخ، أما عندنا فإننا نتفنن في «تعذيبه» وتضييعه في الزواريب والأزقة.
في الدول «الطبيعية»، يجمع الانتصار الناس حوله على اختلاف ميولهم، فيترفعون في حضرته عن خلافاتهم وتناقضاتهم ويتنافسون على احتضانه والبحث عن صلة قربى به، أما عندنا فيتحوّل إلى أحد أبرز عوامل الانقسام الداخلي.
في الدول «الطبيعية»، تتسلم المقاومة بعد الانتصار السلطة، بل تُسلّم إليها طوعاً تقديراً لتضحياتها، أما عندنا فتُستخدم كل أنواع الضغوط والحيل السياسية لاستبعادها عن الحكومة، حتى لو كانت ستتمثل فيها بحقيبة فعلية واحدة فقط، يوم أُسميت «حكومة حزب الله» لا يتجاوز مداها حدود الزراعة المهمَلة.
في الدول «الطبيعية» يصبح السلاح المقاوم «عبرة»، أما عندنا فهو «عبء» على البعض ممّن بات يأمن لنيات العدو ويرتاب من نيات المقاومة.
وبما أننا في دولة غير طبيعية، ستبقى المقاومة مادة خلافية، وستبقى المناسبات المفصلية، مثل 14 آب، موضع اجتهاد، بحيث يحتفي بها البعض ويتجاهلها البعض الآخر.
لكن، على الأقل، لنتشارك جميعاً في المراجعة والتأمل، على قاعدة أن الأرض لو اجتمعت كلها، فلن يكون بمقدورها أن تقنع جنوبياً واحداً بالتخلص من سلاح المقاومة، فكيف بالمقاومين أهل السلاح والنصر؟
وكيف بالأكثرية التي ما تزال ترى في إسرائيل «العدو»، ولسوف تظل تراه عدواً حتى لو صالحه عرب الهزيمة، الذين تواطأوا على المقاومة خلال الحرب، حين جاءوا إلى بيروت بإذن عبور إسرائيلي، وأصدروا بيانهم التافه الذي كاد يجهّل المعتدي، وحاول تجاهل دماء المجاهدين التي صنعت النصر!
برغم كل ذلك، ليس أقل من أن نتبادل التهاني في هذا «العيد»، بينما تثقل زماننا ذكريات النكسات وأخبار الفتن وانهيار الدول التي عجزت عن حماية وجودها بالقتال حيث يتوجب القتال: ضد العدو الإسرائيلي.