ساعة من مخاطبة المسلحين لبعضهم على أجهزة اللاسلكي في دمشق السيدة زينب
تقرير وكالة أنباء الشرق الأوسط أفغانستان
الحق أن طبائع الناس نفسها تغيرت إلى حد ما، فلون البراءة الذي كنت تطالعه في وجوه الدمشقيين شَابَهُ الكثير من الحذر والقلق، وكأنك لست في دمشق المعهودة ببسمتها!
حين ذاك لا ضير أن تكون الهدايا من جنس الأحداث وصخب المعارك.
تسجيل صوتي رصده «الصديق» عبر أحد أجهزة مراقبة اللاسلكي في منطقة السيّدة زينب بريف دمشق (فيه محادثات صاخبة، وأوامر، والكثير من الشجار، يخص بعض المجموعات المسلحة المعارضة في تلك المنطقة).
الاستماع إليها يُعطي تفصيلاً شبه دقيق عن محاور الاشتباك ووتيرة المعارك، وحتى طبائع ومستوى ثقافة المقاتلين ووعيهم.
تشعر لوهلة أنك ترقب المشهد برمته من الأعلى.
قد لا ينقل الحرف ما ينقله الصوت، لكنني سأوجز أكثر ما سمعته أهمية في هذا التسجيل:
(بدايةً فلنتّفق على اسمين مجازيين للمتحدِّثَين غير المعروفي الهويّة، وليكونا «عمرو» و«زيد»؛ مُراعاةً لأدب اللغة العربيّة فحسب، أمّا ما بين القوسين فهي مجموعةٌ من الشتائم التي لا يليق إيرادُها!)
المشهد الأوّل: على دوار حجّيرة:
زيد: يا أحمد يا أحمد، وينك يا زلمة، الدوار صرلوا ساعة بلا حراسة!
أحمد: إي معك، مجموعتي صرلها أربع ساعات زيادة يا رجّال، شوف دور مين.
زيد: وكيف بتترك الدوار قبل ما يجي حدا يستلم منك!! شو هيي القصة عكيفي وكيفك، ما بيصير الدوار ينترك، ارجعوا بسرعة قبل ما حدا ينتبه.
أحمد: لا تعصّبني يا رجّال، حاج تحطونا نحنا ع طول بالوجه، شو في شي هجمة قوية بعد شوي يعني؟؟… شوف حدا تاني.
زيد: ارجاع أحسنلك… أحسن ما خبّر الشيخ ها…
أحمد: (…….) أنت والشيخ!، تعا إنت واياه قاتلو، مو قاعدين بـ«ببيلا» (وهيَ حيٌّ معرُوف) وشاطرين بالحكي الفاضي..!
يرتفع مستوى تبادل الشتائم بسرعة، والمركز المطلّ على الدوار خالٍ من المسلّحين.
لوهلة ما، ظنّت اللجانُ الشعبيّة أنّ في الأمر خدعةً، لكنّها لم تكن لتفوّت الفرصة؛ شنّت هجوماً مباغتاً قلب الكفة لصالحها بالكامل خلال 3 دقائق فقط! وتعدّل وضع المتاريس بسرعة، ليُصبح شارع حجيرة بطوله في مرمى نيرانهم، ويُعرقلوا حركة المسلحين فيه بشكلٍ كبير.
لم يحتج الأمرُ إلى أكثر من رشقات احترازيّة للتغطية على الهجوم، ولم تُبذل قطرة دم واحدة.
البيّن في الأمر أنّ ثمّة خللاً في البنية العسكريّة للمجموعات المسلّحة، وغياب التنظيم قبالة جيشٍ مُنظّمٍ يعني الكثير من الخسائر.
جوانب الاختلاف بين المجموعات (من تدريب وتكتيك وسلاح وعقيدة قتال) لها ثمنها في أرض المعركة، بيدَ أنها ليست سمةً عامّة، فالجماعات المنتظمة في إطار دينيّ أكثر انضباطاً كما هو معروف عنها.
أمّا في عموم مشهد القتال الميداني، فقد فرّطت المجموعات المسلّحة بعامل القوّة الرئيس الذي كانت تتمتع به؛ وهو حيويّة العصابات أمام رتابة تحرّك الجيوش النظاميّة.
فالجيش النظامي أحاط نفسه بتشكيلات فاعلة على طريقة المجموعات والعصابات الصغيرة، في الوقت الذي بدأت فيه المجموعات المسلّحة المعارضة تتقولب في كتل كبيرة، وتتجه ناحية السلوك المكشوف والاحتفال بالعتاد الثقيل والآليات الكبيرة.
وهو بالضبط ما أعاد لسلاح الطيران فعاليته التي لم يكن يحوزها في بداية المعركة.
التسجيل الثاني: مجموعات بيت سحم:
في بيت سحم كان الوضع أكثر إشكاليّة (وهو حيٌّ معروف يبعد قرابة كيلومتر ونصف الكيلومتر فقط عن حي السيدة زينب)، حيث كانت مجموعات مسلّحة تحاول فرض عقيدتها وليس صوت سلاحها فقط.
الأمرُ في أرض الميدان لا يكون مطلقاً بالجماليّة التي تُصوّرها البيانات العسكريّة، فكلّ عوامل الجهل أو اللامبالاة التي يتصف بها المسلحون، لها ثمنها الإنسانيُّ في أرض المعركة.
كان المقطع الصوتيّ المسجّل بين أجهزة اتصال المسلّحين هناك قاسياً، وعرض الجانب المظلم من الانتهاكات الإنسانيّة في هذه المعارك.
يتحدّث أحد قادة المحاور في هذا التسجيل عن أسرهم لعائلة كانت تحاول الفرار من حارتها بعد احتدام المعركة: أب وأم، وبضعة أولاد، وجدة عجوز.
زيد: يا أبو شهاب يا أبو شهاب.
أبو شهاب: معك معك… قلّي.
زيد: مسكنا عيلة طالعة ناح طريق المطار.
أبو شهاب: وشو شكلهن هدول؟
زيد: شكلهم مع الدولة، الزلمة موظف بالغزل والنسيج.
أبو شهاب: كمشتو معم شي؟
زيد: لأ… بس مانهم مع الثوار… بركي طلعوا عواينيّة (جواسيس)؟
أبو شهاب: انت تصرف… انت تصرّف.
زيد: يعني شو؟
أبو شهاب: هوّي معنا شي؟ في حدا من قرايبينو مع الشباب؟
زيد: عم يقول لأ… قال هني جماعة بحالهم… ومالهم علاقة بحدا.
أبو شهاب: خلص طالما موظف يعني ضدنا، ريحنا منهم.
زيد: هيك رأيك ؟؟… طيب الكل؟… في الزلمة ومرتو وأمو وكم ولد.
أبو شهاب: إي هيك أحسن… ولا تخلي حدا يبقى ويحكي… قول الله.
زيد: يا رب.
انتهت المحادثة، وجمدتُ لوهلة أمام تتمة المشهد المفترضة!
هذا الجانب المظلم من الأحداث يعكس فقر الإنسانيّة الحاد في بيئة الحرب، حيث يمر مصير زوجة وجدة عجوز وبضعة أطفال بشكلٍ عبثيّ، لمجرّد الاشتباه برجل لا يريد أن يكون طرفاً في المعركة!!
القتل هنا ليس طائفيا، والموت لا يتقيّد بالانتماء المذهبي… غاية الأمر أن فوضى السلاح تقتل الإنسانيّة في قلوب حامليه؛ وبعدها لا شيء يستحقُّ أن يُذكر.
في الغالب… من جملة ما يلفتك ضمن مخاطبة المسلحين لبعضهم على أجهزة اللاسلكي، الضعف التنظيمي الميداني، وانعدام حالة «التحكم والسيطرة» بشكل خطر، خصوصاً أنّ طبيعة المعارك متغيّرة وغير محكومة بنسقٍ واحد.
لم تستطع مجموعات المسلّحين تجاوز عقليّة «قبضايات» الدراما السوريّة التي تحكي دمشق القديمة، ولم تصل بعد إلى مرحلة الفصيل المنظّم الذي يتحرّك بروح الفريق ويُنفّذ قبل أن يعترض؛ وهو – كما يعلمُ خبراء القتال – خلل استراتيجيّ خطر في الميادين، وكفيل بأن يودي بمجموعات مقاتلة بكاملها في معركة واحدة، لا سيما أن الطرف الآخر منظم ومنضبط في طريقة التحرك وأوامر القتال على أقل تقدير، وإن كان يُعاني تثاقل الجيوش النظاميّة.
المسألة ليست تحليلاً أو استقراءً للمعطيات؛ إنها نقل حرفي للغة السلاح المسيطر هناك، بحيث لم يدع وضوحُ الأحداث وتسارعُها مجالاً للتحليل فعلا. المشاهدة وحدها كفيلةٌ بفهم الواقع وتلمّس مستقبله القريب.
على هامش المعارك في ريف دمشق تبرز مشكلة إنسانيّة غاية في الحساسيّة، وهي اضطرار سكّان كل منطقة تدخلها الجماعة المسلّحة إلى مغادرتها قسراً، لأن الجيش سيدخلها طبعا بكل تأكيد، وسيصبح العنف دمويا وصاخبا.
الإنسانُ السوري ومستقبله رهن بانتهاء زمن الفوضى، وهو يأبى أن ينتهي… على أمل ألا ينتهي صبر إنساننا أولا.
المصدر: جريدة السفير البنانية